سنتان ونصف السنة منذ إعلان بيان جنيف الأول ولم يتم تطبيق أي جزئية منه في القضية السورية، على الرغم من أن جميع اللاعبين الرئيسيين، السوريين والدوليين، إما أعلنوا موافقتهم على بيان جنيف أو بالحد الأدنى لم يبدوا اعتراضهم عليه. فهل ينقلب دي ميستورا حقاً على جنيف كما يحاججنا إبراهيم حميدي ("الحياة" 18/11/2014) أم أنه يستكمله في النواقص التي عطلت تطبيقه؟
أولاً لنتذكر أن جنيف هو اتفاق دولي تم التوصل إليه من دون أي مشاركة سورية، وبالتالي فإن تطبيقه كاملاً سيبقى رهناً بالتوافق الدولي. تركزت جهود الأخضر الإبراهيمي على تحقيق هذا المستوى من التوافق المطلوب لتطبيق جنيف، من دون أن يقوم بالكثير من الخطوات داخل البلد نفسها، لكن أصبح جلياً الآن أن هذا التوافق هو سراب لا يمكننا أن نرهن إليه إنهاء المأساة السورية.
ثانياً، خلال السنتين ونصف السنة تغير المشهد السوري بشكل كبير جداً، بحيث لا يمكن أن يظل الحل الذي اقتُرح في حزيران (يونيو) ٢٠١٢ كافياً وقادراً على مواكبة التعقيدات الجديدة، فقد تحول المشهد تدريجاً إلى صراع بالغ التعقيد، يتشابك فيه الصراع السياسي مع الأهلي المسلح والحرب بالوكالة عن لاعبين إقليميين ودوليين، بالإضافة إلى الإرهاب الدولي، وهجمات التحالف ضده. هذه الحروب أنهكت الاقتصاد السوري تماماً وجعلت الأزمة بحد ذاتها المصدر الأساسي الذي يمكن الاعتماد عليه لتحصيل المال، وأبرزت لاعبين جدداً لم يكن لهم دور أو قيمة تذكر قبل الأزمة، وبالتالي يستمد معظم الفاعلين في الأزمة نفوذهم من استمرارها وليس من انتهائها. كل هذه التعقيدات وغيرها ولَّدت ديناميات ذاتية للصراع كفيلة بجعله يستمر بدوافع داخلية وإن افترضنا أن التوافق الدولي والإقليمي قد تم الوصول إليه.
ثالثاً، أن الكلام على وقف إطلاق النار الذي أشار إليه بيان جنيف لم يعد بالإمكان تحقيقه فقط عن طريق اتفاق واحد على مستوى القمة، فقد تشظَّى اللاعبون العسكريون في المعارضة إلى درجة كبيرة جداً، وأصبح كل منهم يسيطر على منطقة معينة يرفض التخلي عنها فقط لأن هنالك أوامر من جهة عليا ما. هذا الغياب في مركزية القرار العسكري يظهر أيضاً حتى في جهة النظام، فقد أثبت الواقع أن القوات الموالية غير الرسمية كثيراً ما تعاكس إرادة دمشق إذا لم تتفق مع مصلحتها المحلية، خصوصاً أن هذه القوات بدأت تعتمد بشكل متزايد على الدخل المحلي الذي تدره الأزمة، مثل الرسوم على الحواجز، وهذا الدخل يفوق بأضعاف رواتبها، وبالتالي فإن مصلحتها غالباً تكون في عرقلة محاولات الوصول إلى وقف إطلاق نار أو رفع الحصار عن مناطق محاصرة.
وحتى عندما نادى كوفي أنان بوقف إطلاق نار في نيسان 2012 كجزء من خطة النقاط الست التي أصبحت لاحقاً محور بيان جنيف، كان الوضع الميداني وقتها لا تمكن مقاربته باتفاق على مستوى القيادات بل يقتضي تفاوضاً مناطقياً (طرحه ضمن "خطة وقف إطلاق نار مناطقية" في حينها "تيار بناء الدولة السورية" الذي يرأسه لؤي حسين الذي يقبع الآن معتقلاً للرأي في سجون النظام)، فعلى رغم أن معظم الفصائل المسلحة المعارضة كانت تتبنى حينها اسم الجيش السوري الحر، إلا أنه لم يكن جيشاً بالمعنى المؤسساتي للكلمة يمتثل لتسلسل تراتبي في القرار، بل كان معظم القيادات في الجيش الحر قيادات محلية من المناطق التي تسيطر عليها، وبالتالي فإن وقف إطلاق النار في بابا عمرو في حمص مثلاً كان يقتضي تفاوضاً مباشراً مع قادة الفصائل في بابا عمرو وليس مع رياض الأسعد في تركيا، كما فعل فريق السيد أنان وقتها، وكذلك التواصل مع القيادة غير المسلحة في بابا عمر للدفع بالاتفاقات وتحقيقها. هذا العامل، بالإضافة إلى عوامل أخرى، تجعل الجذور المحلية للصراع والحيثيات المختلفة لكل منطقة عن غيرها في سورية تأخذنا إلى استنتاج بأن مقاربة الحل انطلاقاً من أرض الواقع السوري باتجاه الأعلى لا يمكن الوصول إلى أي حل من دونها.
الحديث على الفاعل المحلي ودوره الجوهري لا يعني أبداً انعدام دور بقية الفاعلين على المستوى السوري والإقليمي والدولي، بل إن دور كل من هؤلاء هو شرط لازم وغير كاف للحل. فكما أن المقاربة الدولية الإقليمية وحدها حتى لو نجحت لن تكون كافية الآن لإنجاح الحل، فإن المقاربة المحلية وحدها أيضاً غير كافية بالضرورة، خصوصاً أن الكثيرين من اللاعبين المحليين هم عرضة بشكل كبير للتدخلات الخارجية التي يمكن أن تحاول إفشال أي اتفاق يتعارض مع مصلحتها.
عندما دخل وقف إطلاق النار الذي دعا إليه السيد أنان حيز التطبيق، وبعد أن عُزز لاحقاً بفريق مراقبين دوليين، تم التوصل إلى تهدئة ملحوظة للعنف وانخفاض كبير في عدد الضحايا، لكن هذا التحسن لم يستمر أكثر من أسابيع، لأنه أغفل تماماً العامل المحلي.
من هنا تأتي مقاربة المبعوث الأممي الجديد لسورية باستكمال جنيف وليس الانقلاب عليه، وليس استجابة لخطة منظمة أو أخرى، بل أن مقاربة هذه المنظمات كلها وخططها وتقاريرها مستوحاة من الواقع الذي فرض نفسه. بيان جنيف هو حل أساسه وقف إطلاق النار، والتشارك على السلطة ينطلق من أعلى مستوى للأزمة، المستوى الدولي، ولا بد أن يتم استكماله بـ "جنيفات" عدة تقوم أيضاً على وقف إطلاق النار والتشارك على السلطة لكن انطلاقاً من مستوى الأرض السورية.
ليس هذان المساران بمنفصلين أبداً، ولا ينفي أحدهما الآخر، لكن الاستمرار بأحدهما دون الآخر لا يؤدي الى تصور أي تغيير ملحوظ للوضع الإنساني في سورية، فمن دون إرادة مركزية (خصوصاً من النظام السوري) لإنهاء حال الحرب بهدف الدخول في حل سياسي، فإن أي اتفاق محلي لوقف النار يمكن أن يكون مجرد تكتيك يسمح للأطراف العسكرية بالتقاط أنفاسها من أجل إعادة الانتشار أو تكثيف الهجوم العسكري في مناطق أخرى. كما أنه من دون حل سياسي فإن الإدارة السياسية للبلاد ستظل نفسها، وهي إدارة أخذت المشهد بشكل مضطرد حتى الآن باتجاه التأزيم وليس الحل.
لكن أي اتفاقات، سواء محلية أم مركزية، ستظل هشة من دون أدوات التطبيق ومن دون الضمانات، فمن الناحية التقنية يتطلب وقف إطلاق نارٍ فريقَ مفاوضين حياديين ومحترفين قادرين على تحليل الصراع بكل أبعاده، والتوسط للوصول إلى اتفاق في كل منطقة يأخذ في الاعتبار مظالم هذه المنطقة ومتطلبات كل أصحاب المصالح فيها، وتحديداً المدنيين، وليس فقط الجهات العسكرية، والمساعدة في صوغ اتفاق وقف للنار يحقق مصلحتهم.
ويتطلب الحفاظ على أي وقف للنار بعثة مراقبين مفوضين من مجلس الأمن بمراقبة هذه الاتفاقات وحمايتها. وتفويض مثل هذه البعثة وصلاحياتها يمكن أن يختلف كثيراً من منطقة إلى أخرى بحسب درجة العنف فيها، وبالتأكيد لا يمكن اقتراح إرسالهم إلى مناطق سيطرة "داعش". أما الضمانات، فهي أيضاً جوهرية ويجب أن تقدمها الأطراف الدولية وأن يتم صوغها ليس فقط على المستوى الأعلى، فالفاعلون الإقليميون والدوليون يختلفون كثيراً باختلاف المناطق.
المعضلة الأكبر تأتي في الإجابة عن سؤال: كيف يمكن البناء على الاتفاقات المحلية وصولاً إلى حل سياسي؟ والجواب يكمن في طبيعة اللاعبين غير العسكريين في مناطق الصراع. غالبية هؤلاء اللاعبين هم إما المجالس المحلية أو المجتمع المدني بتجلياته المتنوعة أو القيادات المجتمعية التقليدية. هنالك فراغ سياسي مخيف على الأرض، سيصعب التعويض عنه في فترة قصيرة، وبالتالي فإن بناء الشرعية المحلية انطلاقاً من انتخابات إدارة محلية في كل منطقة بحد ذاتها يمكن أن يكون خطوة أولى لإنتاج قيادات محلية قادرة على اتخاذ القرار بخصوص مناطقها وإدارتها وفق متطلباتها، ويمكن أن يتم هذا بالعمل على تضمين بنود قانون الإدارة المحلية ١٠٧ ضمن الأطر التفاوضية وأطر عمل المجالس المحلية في المناطق المعنية بالاتفاقات. قد يحتاج القانون ١٠٧ إلى الكثير من التعديلات لكنه في جوهره يتضمن درجة كبيرة من اللامركزية المطلوبة في هذه المرحلة.
نهايةً، فإن جنيف لم يتعرض أبداً للعامل الاقتصادي في الحل والذي أصبح أيضاً أحد الشروط اللازمة وغير الكافية للحل. إن تهميش اقتصاد الحرب عن طريق تشجيع الاقتصاد الذي يعتمد على السلام والاستقرار، هو أيضاً أحد المداخل الأخرى التي يجب أن تتم مقاربتها بقرارات دولية، وأيضاً بمقاربة محلية تترجم أي سلام محلي فوراً إلى مصدر للتنمية والانتعاش.
هذه الخطوات الضرورية واللازمة من أجل التهدئة وحقن الدماء وتحسين الوضع الإنساني، لا يجب أن تكون تعويضاً عن جوهر الحل السياسي كما عبر عنه بيان جنيف، وعن ترسيخ هذا الحل في تغيير دستوري على مراحل ينهي الاستبداد ويضع البلاد على سكة التحول الديموقراطي.
[عن مجلة "الحياة"]